هذا النوع جليل المقدار كثير الفوائد، وقد سئل بعض البلغاء عن ماهية البلاغة فحدها بمعرفة الفصل والوصل.
وقاعدته العظمى الواو العاطفة، ويلتحق بها واو الحال.
المبحث الأول: العطف بالواو
اعلم أن العطف على نوعين: عطف مفرد على مفرد، وعطف جملة على جملة:
الأول: عطف مفرد على مثله:
ويستفاد منه مشاركة الثاني للأول في الإعراب في رفعه ونصبه وجره، بالفاعلية أو بالمفعولية أو بالإضافة وحروف الجر.
فتقول: "جاء زيد وعمرو" فـ"عمرو" معطوف على زيد والمعطوف على المرفوع مرفوع فاشتركا في الإعراب، والذي أوجب رفع زيد كونه فاعلا لـ "جاء" وكذلك كان "عمرو".
وقلّ مجيء العطف في الصفات لاتحاد محلها، وأن الصفة تجري مجرى الموصوف، فتقول: "جاء زيد الطويل الذكي الغني" أولى من "جاء زيد الطويل والذكي والغني".
والعطف في الصفات الإلهية أقلّ لاتفاقها في الدلالة على الذات المقدسة فجرت مجرى الأسماء المترادفة كقوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ.
وأما قوله سبحانه: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ فلتضاد معانيها مما قد يستبعد وجود هذه الصفات في ذات واحدة فجاء بالعاطف ليرفع هذا الوهم، لأن الشيء الواحد لا يكون ظاهرا باطنا من وجه واحد فلأجل هذا حسن العطف.
ومن ثم جاء العاطف في قوله تعالى: عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً[التحريم:5] فإن الثيوبة والبكارة متضادتان لا يجتمعان في محل واحد، بخلاف ما تقدمه من الصفات، فإنها معدودة من غير "واو".
ونظيره قوله تعالى: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ[التوبة:112]
عطف الناهي على الآمر، لأن النهي يراد به منع الفعل وإبقاؤه على العدم، والأمر يراد به إيجاد الفعل، والعدم والوجود متضادان لا يجتمعان.
الثاني: عطف جملة على جملة، وهو نوعان:
النوع الأول: عطف جملة على جملة لها موضع في الإعراب:
وتكون بمثابة عطف المفرد على المفرد كقولك: "مررت برجل خَلقُه حسن وخُلُقه قبيح" فقد أشركت بين الجملتين في الإعراب، وهو الجر صفة للنكرة ليستدل به على التشريك في المعنى وهو كون كل واحد منهما تقييدا للموصوف وتخصيصا له.
ومما اختلف في جعله من عطف المفردات والجمل قوله تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ فمنهم من عطفه على اسم الله تعالى فجعل "الراسخون في العلم" عالمين بالمتشابه و "يقولون" على هذا حال من "الراسخون" .
ومنهم من جعله مبتدأ و"يقولون" خبره، وأن الواو عاطفة لجملة على جملة فيكون التقدير: "فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه، وأما الراسخون فيقولون آمنا به كل من عند ربنا".
ودلل على قوله بأوجه منها:
أن ظاهر الواو العطف، فلا يعدل عنه إلا بدليل، وإذا وجب العطف فلا يجوز عطف الراسخين على قوله: "إلا الله" لأن الراسخين جملة، واسم الله مفرد، فلا يجوز عطفه عليه.
ولأن وضع "أما" للتفصيل بين الأجناس المتعددة ولم يسبق إلا أحد الجنسين، وهو قوله: فأما الذين في قلوبهم زيغ إلى آخر صفاتهم، فيجب أن يتلوه الجنس الآخر المقابل له، وهم الراسخون في العلم، فيكون التقدير: "فأما الزائغون فيتبعون... وأما الراسخون فيقولون..."( )
ومما اختلف في إيصاله واستئنافه قوله تعالى: فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ منهم من قضى باستئنافه على أنه مبتدأ وخبر، ومنهم من قضى بجعل "فيه" خبر "لا" و "هدى" نصب على الحال في تقدير "هاديا".
ولا يخفى انقطاع: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ عن: آخر الآية قبلها: أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ في قوله تعالى: وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ{6} الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [غافر].
النوع الثاني: أن يعطف جملة على جملة لا موضع لها من الإعراب:
وهو الذي يشكل أمره، نحو: "زيد أخوك وعمرو صاحبك" فالجملة الأولى لا موضع لها من الإعراب لكونها ابتدائية، وعلى هذا تكون الثانية لا موضع لها من الإعراب أيضا.
وهل يكون للواو هنا فائدة؟
ذهب بعضهم إلى أنه لا فائدة للواو هنا غير الإشراك في الإخبار، بخلاف حروف العطف الأخرى التي تدل على معاني خاصة كالفاء و"ثم" تدلان على الترتيب، والصواب بخلاف ذلك كما سنبينه، فنقول:
الأحسن في العطف مطلقا أن تتفق الجملتان في الاسمية والفعلية، والفعليتان في نوع الفعل، والاسميتان في نوع المسند من حيث كونه مفردا أو جملة أو ظرفا ولا تحسن المخالفة إلا لداع كحكاية الحال الماضية واستحضار الصورة الغريبة في الذهن نحو: إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله فريقا كذبوا وفريقا يقتلون.
وكإفادة التجدد في إحداهما والاستمرار على الأخرى نحو: أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين.
فقد لوحظ في الأولى إحداث تعاطي الحق، وفي الثانية الاستمرار في اللعب، والثبات على حالة الصبا.