سجود القرآن نوعان : خبر عن أهل السجود ، ومدح لهم ... أو أمر به ، وذم على تركه .
1 - سجدة الأعراف:( إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ) ( الأعراف 206 ) ، وهذا ذكره بعد الأمر باستماع القرآن والذكر.// ( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ) (الأعراف : 204 -205 )
2 - وفي الرعد :( وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ) )(الرعد 15)،
3 - وفي النحل: ( أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ اليمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) (النحل: 48ـ 50)،
4 - وفي سبحان : ( إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَي عليهمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ) (الإسراء: 107ـ 109)، وهذا خبر عن سجود مع من سمع القرآن فسجد.
5 - وكذلك في مريم:( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عليهم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَي عليهمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ) (مريم: 58)، فهؤلاء الأنبياء سجدوا إذا تتلي عليهم آيات الرحمن، وأولئك الذين أوتوا العلم من قبل القرآن إذا يتلي عليهم القرآن يسجدون.
وظاهر هذا سجود مطلق كسجود السحرة في قوله تعالى : (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ) (الأعراف : 120 ) وقوله : (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً ) (طه : 70 )... وكقوله: ( وَادْخُلُواْ الْباب سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ ) (البقرة 58)، وإن كان المراد به الركوع... فالسجود هو خضوع له وذل له ؛ ولهذا يعبر به عن الخضوع. كما قال الشاعر:
ترى الأُكُم فيها سجداً للحوافر ...
قال جماعة من أهل اللغة : السجود التواضع والخضوع وأنشدوا :
ساجــد المنخـــــر مــا يـرفعـــه خـاشــع الطــرف أصـم المســمع
قيل لسهل بن عبد الله: أيسجد القلب ؟ قال: نعم ، سجدة لا يرفع رأسه منها أبداً .
6 - وفي سورة الحج : الأولى خبر: ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عليه الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء) (الحج: 18) ،
7 - وفي سورة الحج ، الثانية :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (الحج: 77 ) أمر مقرون بالركوع ؛ ولهذا صار فيها نزاع ....
8 - وسجدة الفرقان: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا) (الفرقان:60) ، خبر مقرون بذم من أمر بالسجود فلم يسجد، ليس هو مدحاً.
9 - وكذلك سجدة النمل: ( وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ )( النمل: 24 ـ 26 )، خبر يتضمن ذم من يسجد لغير الله، ولم يسجد للَّه. ومن قرأ ( ألا يا اسجدوا ) ، كانت أمرا ً. // قال ابن كثير : وقرأ بعض القراء: "ألا يا اسجدوا لله" جعلها "ألا" الاستفتاحية، و"يا" للنداء، وحذف المنادى، تقديره عنده: "ألا يا قوم، اسجدوا لله "./
10 - وفي ( ألم تنزيل ) ، السجدة : ( إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ) ( السجدة: 15)، وهذا من أبلغ الأمر والتخصيص؛ فإنه نفي الإيمان عمن ذكر بآيات ربه ولم يسجد إذا ذكر بها.
11 - وفي (ص): خبر عن سجدة داود، وسماها ركوعاً ... ( قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ ) (صـ 24 )
12 - و(حم تنزيل) أمر صريح : ( وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ) ( فصلت:37،38) ،
13 - والنجم ، أمر صريح: ( فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) ( النجم: 62) ،
14 - والانشقاق ، أمر صريح عند سماع القرآن : ( فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عليهمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ ) (الانشقاق:20،21) ،
15 -و العلق ، أمر مطلق : ( وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) (العلق: 91) .
* فالستة الأوّل إلى الأولى من الحج ، خبر ومدح....والتسْع البواقي من الثانية من الحج أمر وذم لمن لم يسجد، إلا ( ص) ..
- فنقول: قد تنازع الناس في وجوب سجود التلاوة . قيل: يجب. وقيل: لا يجب. وقيل: يجب إذا قرئت السجدة في الصلاة ، وهو رواية عن أحمد ، والذي يتبين لي أنه واجب : فإن الآيات التي فيها مدح لا تدل بمجردها على الوجوب؛ لكن آيات الأمر والذم والمطلق منها قد يقال : إنه محمول على الصلاة، كالثانية من الحج، والفرقان، واقرأ، وهذا ضعيف، فكيف وفيها مقرون بالتلاوة كقوله: ( إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ) ( السجدة: 15) ، فهذا نفي للإيمان بالآيات عمن لا يخر ساجداً إذا ذكِّر بها، وإذا كان سامعاً لها، فقد ذُكّر بها....
- وكذلك سورة الانشقاق: ( فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عليهمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ ) ( الانشقاق:20،21 ) ، وهذا ذم لمن لا يسجد إذا قرئ عليه القرآن كقوله : ( فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) ( المدثر:49) ، وقوله : ( وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ ) ( الحديد: 8)، وقوله فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) [النساء: 78]،...
- وكذلك سورة النجم، قوله: ( أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ وَأَنتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) ( النجم:59 ـ 62)، أمرٌ بالغ عقب ذكر الحديث الذي هو القرآن يقتضي أن سماعه سبب الأمر بالسجود ، لكن السجود المأمور به عند سماع القرآن كما أنه ليس مختصا بسجود الصلاة فليس هو مختصا بسجود التلاوة، فمن ظن هذا أو هذا، فقد غلط، بل هو متناول لهما جميعاً، كما بينه الرسول صلى الله عيله وسلم...
فالسنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه. فالسجود عند سماع آية السجدة هو سجود مجرد عند سماع آية السجدة، سواء تليت مع سائر القرآن ، أو وحدها، ليس هو سجوداً عند تلاوة مطلق القرآن، فهو سجود عند جنس القرآن. وعند خصوص الأمر بالسجود، فالأمر يتناوله. وهو ـ أيضاً ـ متناول لسجود القرآن ـ أيضاً ـ وهو أبلغ؛فإنه ـ سبحانه وتعالى ـ قال: ( إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ) ( السجدة: 15) ، فهذا الكلام يقتضي أنه لا يؤمن بآياته إلا من إذا ذكر بها خر ساجداً، وسبح بحمد ربه، وهو لا يستكبر... ومعلوم أن قوله: ( بِآيَاتِنَا ) ليس يعني بها آيات السجود فقط، بل جميع القرآن. فلابد أن يكون إذا ذكر بجميع آيات القرآن يخر ساجداً، وهذا حال المصلي، فإنه يذكر بآيات الله بقراءة الإمام، والإمام يذكر بقراءة نفسه، فلا يكونون مؤمنين حتى يخروا سجداً، وهو سجودهم في الصلاة، وهو سجود مرتب ينتقلون أولا إلى الركوع ثم إلى السجود، والسجود مثني كما بينه الرسول ليجتمع فيه خروران: خرور من قيـــام ـ وهو السجدة الأولى. وخرور من قعود، وهو السجدة الثانية. وهذا مما يســـتدل به على وجــوب قعدة الفصل، والطمأنينة فيها، كما مضت به السنة ؛ فإن الخرور ســاجداً لا يكـــون إلا من قعود أو قيام. وإذا فصل بين السجدتين كحد السيف، أو كان إلى القعود أقرب، لم يكن هذا خروراً.